يعيش المغاربة في ظل نظام حكم يعود إلى القرون الوسطى. لم يتغير جوهره الاستبدادي القائم على إخضاع مصير الأمة و البلد لإرادة فرد و حاشيته. تغير شكله حيت تزود بالتقنيات الحديثة في ضبط المجتمع و قمعه، واكتسى أشكالا من التزويق الحديث ليس إلا.
كانت الملكية سلطة للطبقة السائدة قبل الرأسمالية، التي لم يتأت لها قط أن تبسط سيطرتها على كل مناطق البلد. ومع التغلغل الاستعماري،ومعه نمط الإنتاج الرأسمالي التابع، تحولت الملكية مع تبدل الطبقات السائدة، لا بل ساهمت الملكية في تطوير طبقة برجوازية جنينية، باستعمال الدولة عكازا للرأسمال الخاص، و في تحويل علاقات الإنتاج في القرى نحو سيادة الرأسمالية في الزراعة.
عجزت البرجوازية المغربية عن الحكم بالأصالة عن نفسها، فحاولت تقاسم السلطة مع الملكية بعد الاستقلال الشكلي من موقع الشريك الصغير. فكان كل "نضالها الديمقراطي" محاولة لتوسيع الهامش الممنوح لها، فلم تنل الا فتات سلطة في مؤسسات زائفة.
نشأ داخل حركة النضال من أجل الاستقلال جناح يساري، وتبلور جليا مع نتائج الاستقلال المزور، حيث استمر الاستعمار بشكل جديد، و جرى إرساء دعائم حكم فردي مطلق. اخترقت هذا الجناح اليسار ميول جذرية داعية إلى القضاء على الحكم الفردي، الذي كان يوصف بالإقطاعي. ولعل أبرز ممثلي هذه الحالة المقاوم أحمد اكوليز المعروف بشيخ العرب. فقد حافظ على شبكة مقاومين رافضين للملكية ساعين لإطاحتها بالعمل المسلح النخبوي على غرار منظمات المقاومة ذاتها. وعلى نحو أوسع نشأت داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي كان تركيبه الاجتماعي مزيجا طبقيا من شغيلة و برجوازية صغيرة حضرية وقروية ومثقفين برجوازيين، حالة جمهورية يرمز إليها محمد البصري المعروف بالفقيه. تحدر الفقيه البصري من المقاومة المسلحة للاستعمار، وحمل معه الضعف السياسي الذي ميز تلك المقاومة، و أساليبها في النضال المعزول عن الجماهير. بعد فشل محاولات تقاسم السلطة مع الملكية تقاسما فعليا، هذا الوهم الذي دوخ قسما من الاتحاديين أبرزهم المهدي بن بركة، سار تيار الفقيه البصري صوب استبدال الملكية بنظام جمهوري. انخرط في هذا المشروع رعيل من المناضلين الوطنيين اليساريين الأشد إخلاصا لمصالح الجماهير الشعبية. و سيرا إلى تحقيقه سقط الكثير من شهداء النضال التحرري بالمغرب، رفاق عمر دهكون و محمد بنونة.[أفضل ما صدر عن تجربة هذا الفوج من جمهوريي المغرب كتاب المهدي بنونة، أبطال بلا مجد- فشل ثورة . منشورات طارق ، 2005]
قضت الملكية على هؤلاء الجمهوريين بحملات قمع متتالية، كانت ضربته القاضية عليهم حملة النصف الأول من سنوات 1970.
و من جانب آخر، بعد انتفاضة 23 مارس 1965 الشبابية، بدأت بالتبلور حركة ثورية متمثلة في منظمات اليسار الماركسي- اللينيني، في سياق عالمي ثوري. حملت هذه الحركة مشروع جمهورية العمال و الفلاحين. فتعرضت للإبادة. حيث كان تاريخها حافلا بحملات استئصال ألقت جيلا مناضلا في المعتقلات السرية، و المحاكمات و القتل بالتعذيب. كانت تلك صفحة مشرقة من الوفاء لمثل التحرر و الصمود بوجه الطغيان. صفحة تحمل عنوان جبيهة رحال و التهاني أمين ورفاقهما.
وهل نحتاج الى التذكير بجد الجمهوريين المغاربة، عبد الكريم الخطابي الذي أقام في خضم كفاحه الوطني ضد الاستعمار جمهورية الريف، بمؤسساتها و علمها؟ و طبعا لا تزال الملكية أكثر مما بوسعها لطمس تلك الصفحة المشرقة من كفاح كادحي المغرب على طريق تحررهم.
ومنذ أن متنت الملكية سيطرتها، ببناء الجيش و الشرطة، و الإشراف المباشر و الحصري عليهما، وضعت دستور حكم مطلق يضع الطبيعة الملكية لنظام الحكم خارج أي نقاش أو مساءلة. وجرى فرض هذا الدستور بالتزوير و القمع. و رفع هذا الدستور الملك إلى منزلة القداسة، ومنع اأي مراجعة دستورية للطبيعة الملكية للنظام. و أكد قانون الأحزاب استحالة التعبير عن رأي جمهوري ، حيث جاء في مادته الرابعة على بطلان تأسيس كل حزب سياسي يهدف إلى المس بالنظام الملكي.
هذه هي الديمقراطية التي أجمعت عليها أحزاب تدعي الوطنية و الديمقراطية. ديمقراطية لا تتسع حتى لذكر كلمة الجمهورية. لم يبق، بعد إزالتها من قاموس السياسة، غير محوها من قاموس اللغة الأدبية، ومنع كتاب افلاطون الذي يحملها في العنوان.
كيف لا وقد بلغ هذا الخوف من تلك الكلمة مستوى كاريكاتوريا. حوكمت ندية ياسين في العام 2005 لمجرد تصريحها بتفضيل الجمهورية على الملكية.
في صيف 2010 قال مخرج سينمائي شاب هزلا انه يتمنى أن يرأس الجمهورية المغربية، فقامت القيامة، أصدرت الإذاعة بلاغا تبرأ من دعابة الشاب أعقبه بث النشيد الرسمي. ومع ذلك عوقبت الإذاعة بوقف بثها 48 ساعة وبغرامة 5000 درهم.
ملكيون مستاؤون من مكانة الملك، سلطة و مالا
منذ وفاة الحسن الثاني، بدأت تعلو أصوات مثقفة، في الصحافة المسماة مستقلة، للتعبير عن موقف ناقد ليس للنظام الملكي بل لكيفية تجسده في الحالة المغربية. كانت هذه الأصوات البرجوازية، من قبيل خالد و أبي بكر الجامعي و عبد المومني فؤاد، حريصة على الملكية، ذكية تبصر الخطر الكامن في تزايد الاستبداد و السطوة المالية للملكية [تضاعفت ثروة الملك منذ توليه الحكم خمس مرات من نصف مليون دولار الى 2,5 مليار حسب مجلة فوربس. وهو ما لم يكذبه الديوان الملكي لحد الآن].
عبرت تلك الأقلام عن الموقف الكلاسيكي لمعارضة برجوازية عاجزة:
• الحرص على الملكية بسبب الخوف من الكادحين، و التمسك بها طالما كانت ضامنا لاستقرار شروط استغلال الطبقات الشعبية. لا سيما أن للملكية عمقا تاريخيا في بلد تسوده الأمية و الجهل. كما يريدونها نوعا من الحكم بين أقسام الرأسماليين الذين قد تتعارض مصالحهم أحيانا.
• التنبيه إلى أن الإفراط في القهر قد يبلور قوة شعبية معارضة جذرية لن تقف في حدود الإصلاح، و إلى أن تعاظم السطوة الاقتصادية للملكية يهدد بالفناء أقطابا رأسمالية على نحو قد يدفعها دفعا إلى إعتراض قد يحفز تذمر الكادحين.
هؤلاء الرأسماليون و الناطقون باسمهم، لا يهمهم أن يكون النظام ملكيا أو جمهوريا، يهمهم التحكم بالكادحين و ضمان المصالح الطبقية للمالكين. إنهم يخافون ملكية مفرطة في الاستبداد ستجر عليها وعليهم البركان الشعبي.
حلم هؤلاء إخضاع الملك لرقابة البرلمان كي لا يفلت و يتصرف على هواه على نحو مكلف للبرجوازية. وهم حاليا يحاولون إفزاع النظام بالملكية البرلمانية ليرخي قبضته، وقد يسعون إلى إفزاعه بالجمهورية يوم يتعاظم الخطر الشعبي على نحو يهدد مصالح البرجوازية برمتها،، يوم تتعزز قوى الكادحين، وعيا وتنظيما.
من أجل حرية تعبير و تنظيم حقيقية
لا حرية سياسية دون حرية الجمهوريين في التعبير عن رأيهم، و في تشكيل أحزاب جمهورية، مثلما يفعل الملكيون في أنظمة جمهورية ديمقراطية. الجمهوريون بالمغرب مقموعون، و النظام يسعى إلى طمسهم، و ترك حالات فردية نادرة تعبر عن جمهوريتهما، لأنه ما من أرض تخلو من مجانين.
صلب المشكل السياسي بالمغرب هو الاستبداد، ومن ثمة فمحك كبير أن يتاح للجمهوريين مكان آخر غير السجون و المقابر و المنافي.
رفيق الرامي
.
|